من كتالونيا إلى تيران وصنافير.. خذوا "الوطنية" من أفواه الأسبان
مهند حامد شادي
من كتالونيا إلى تيران وصنافير.. خذوا "الوطنية" من أفواه الأسبان
»من غير الممكن إجراء استفتاء يقضي على السيادة الوطنية والمساواة بين الإسبان«.
كان هذا تصريح مريانو راخوي، رئيس الوزراء الأسباني، أول أمس –الجمعة- تعليقا على دعوات الاستفتاء على انفصال إقليم كتالونيا، الواقع شمال شرق أسبانيا.
الوطنية الحقيقية لا تتشارك مع الاستبداد، فالاستبداد منبع الخيانة حتى ولو صدّع رؤوسنا بالوطنية والوطن ويحيا الوطن.
كتالونيا والانفصال: عندما أراد فريق البارسا اللعب في الدوري الفرنسي
ظهور أسبانيا الحديثة كما نعرفها بدأ مع زواج كل من فردناند وإيزابيلا، ملكي أرغون وقشتالة، وتكون المملكة الأسبانية، حيث كانت كتالونيا جزءا من مملكة أرغون ومن ثم انضمت إلى المملكة الأسبانية بالتبعية.
في بداية القرن العشرين توالت على كتالونيا عدة محاولات للحكم الذاتي والانفصال، كان منها إعلان قيام كومنويلث بين أربعة من مقاطعات الإقليم، ولكن دون صلاحيات تشريعية، سرعان ما تم فض هذا الكومنويلث بعد قيام ديكتاتورية »بريمو دي ريفيرا«.
مع قيام الجمهورية الأسبانية الثانية في أول الثلاثينات من القرن العشرين، عقب انهيار ديكتاتورية دي ريفيرا، حصلت كتالونيا مرة أخرى على حكم ذاتي وأعلنت الجمهورية الكتالونية سنة 1936، ببرلمان ورئيس ونظام قضائي مستقر، وقد لعب الأناركيون دورا مهما في هذه الجمهورية. إلا أنه نتيجة عدم الاستقرار السياسي في أسبانيا في ذلك الوقت، سرعان ما انهارت الجمهورية الاسبانية الديمقراطية ودخلت البلاد في حرب أهلية، خلدها العديد من الفنانين والأدباء، أشهرهم بيكاسو في لوحة الحرب الأهلية الأسبانية، وقد شارك فيها نشطاء ومفكرون وأشخاص من دول متعددة دفاعا عن الديمقراطية وأفكار أخرى طرحت في ذلك الوقت. انتهت الحرب -1939- بإنتصار فرانكو، الجنرال العسكري قائد الجيش، والذي أقام ديكتاتورية عسكري استمرت حتى وفاته سنة 1975.
طيلة حقبة الدكتاتورية، قمع فرانكو كتالونيا ومنع التحدث باللغة الكتالونية، وأعدم رئيس كتالونيا بتهمة القيام بتمرد عسكري، فكانت فترة مظلمة ليس فقط على كتالونيا ولكن على كافة أسبانيا التي عانت بشدة تحت حكم الاستبداد العسكري.لوحة الحرب الأهلية الأسبانية لبيكاسو
انهارت الديكتاتورية ... قامت الديمقراطية ... واستمرت دعوات الانفصال
مع بدء التحول الديمقراطي في أسبانيا بقيادة الملك خوان كارلوس، بدأت مرة أخرى دعوات الانفصال والحكم الذاتي تعلو في كتالونيا، في البداية صوّت الكتالونيين على الدستور الجديد في أسبانيا سنة 78، والذي أقر بوحدة التراب الأسباني مع حق الأقاليم والقوميات في الحكم الذاتي. وهو ما تم بالفعل في العام الذي يليه، وتم الاعتراف باللغة الكتالونية كلغة رسمية بالإضافة للأسبانية، مع تولي الحكومة المحلية شئون التعليم والصحة والثقافة والسياسة اللغوية وتكوين شرطة خاصة بالإقليم، إلا أنه، وبعد انقلاب 81 الفاشل، لم يكن للإقليم حق جمع الضرائب، مما خلق أزمة مستمرة، حيث يقوم الإقليم، الذي يعد من أغنى الأقاليم الأسبانية، بتوريد الضرائب للحكومة المركزية بشكل يجعله عاجزا عن تقديم الخدمات التي يحتاج إليها سكانه في مقابل أقاليم أخرى لا تورد نفس القدر بينما تحصل على وردات أعلى.
ففي عام 2012 على سبيل المثال جمع الإقليم 118.6% من متوسط الضريبة للفرد الواحد، مما جعله في المركز الثالث على مستوى أسبانيا، ولكن بعد توريد الضرائب وإعادة التوزيع من قبل الحكومة المركزية، أصبح ما جمعه يساوي 99.5% من متوسط الضريبة للفرد الواحد مما جعله في المركز الحادي عشر على مستوى أسبانيا. مما جعل ما يعطيه الإقليم للحكومة المركزية يصل لما يقارب 20% - سنة 2009 مثلا – من ضرائب أسبانيا بالكامل، فيما لم تستقبل سوى 14% تقريبا من نفقات الإقليم من الحكومة المركزية في العام ذاته.
كل ذلك جعل من مطالب الاستقلال والحكم الذاتي تتوسع وتتجدد، وهو ما حدث في 2006، بإقرار قانون جديد للحكم الذاتي، بعد مفاوضات مع الحكومة المركزية، وسعت من صلاحيات الإقليم. لكن طعنا قدم للمحكمة الدستورية، حكمت فيه سنة 2010 بإبطال جزء من هذا القانون، جعل تعريف كتالونيا بإعتبارها »أمة« أمرا بغير قيمة قانونية، فنشبت مظاهرات في الإقليم، وتصاعدت الأمور في السنوات التالية، خاصة مع رفض الحكومة المركزية التفاوض مع رئيس الإقليم حول صلاحيات الحكم الذاتي، حتى تم تنظيم إستفتاء »رمزي« شارك فيه حوالي 37% من سكان الإقليم، وافقت الأغلبية الساحقة منهم على الانفصال عن أسبانيا، وذلك في العام 2014. وفي سبتمبر 2015 بعد فوز الأحزاب القومية بالأغلبية –البسيطة - في البرلمان الكتالوني، سعت الأحزاب القومية حتى تم إصدار قانون في نوفمبر من نفس العام يعلن »عملية تأسيس الدولة الكتالونية المستقلة«. والآن تدور رحى الأمر في المحكمة الدستورية التي تنظر طعن الحكومة المركزية على هذا القانون، بعد قبولها للدعوى في نوفمبر 2015.
»أسبانيا« التي في خاطري
طيلة كل ما سبق من أحداث، كان مسعى الحكومة المركزية هو الحفاظ على أراضي أسبانيا دون تقسيم، وبالرغم من أننا لا نناقش أحقية الكتالونيين في الانفصال من عدمه، إلا أن مسلك الحكومة الأسبانية المركزية يظل واضحا، فهي تدعو للحوار وتتفاوض وتلجأ للأساليب القانونية والدستورية والديمقراطية، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة التراب الأسباني، في مقابل دعوات إنفصال ذات بعد تاريخي ويوجد لها ظهير شعبي واضح.
أما في بلادنا، فالحكومة هي التي تسعى لبيع أراضيها لدول أخرى، بل وتوقع الاتفاقيات الخاصة بالتنازل، وحينما يعترض مواطنوها على ذلك في مظاهرات شعبية تقمعهم وتقبض عليهم، ثم حين يلجأ المواطنين للقضاء تقف الحكومة في مواجهتهم وتدفع بصحة موقفها في بيع أرض الوطن، وحين يصدر الحكم تقوم بالطعن عليه ثم توعز من أجل إصدار أحكام لوقف تنفيذ حكم بطلان ما قامت به، ثم توعز لرجالها في الاعلام بالدفاع عن أجنبية قطعة من أرض الوطن، وصل لدرجة إصدار كتب تأييدا لذلك، ثم يقوم مجلس وزراءها بالموافقة على الاتفاقية، رغم صدور الحكم القضائي ببطلانها، وترسله إلى مجلس نواب صنع على عينها، كل ذلك من أجل التفريط في أرض الوطن لجلب مصالح خاصة بالنظام والحفاظ عليه.
في بلادنا.. الحكومة هي التي تسعى لبيع أراضيها لدول أخرى، بل وتوقع الاتفاقيات الخاصة بالتنازل، وحينما يعترض مواطنوها على ذلك في مظاهرات شعبية تقمعهم وتقبض عليهم!
إن مقارنة بين سلطة تسعى بكل السبل القانونية والديمقراطية من أجل الحفاظ على وحدة أراضي بلادها، بالرغم من وجود قضية ذات بعد تاريخي وظهير شعبي، وسلطة تسعى بكل السبل الملتوية وغير الشرعية وغيرها من أجل التنازل عن أرض الوطن دون سند من قانون أو تاريخ أو واقع أو سياسة، يجعلنا ندرك حقا أن الديمقراطية والحرية هما السبيل للحفاظ على الوطن، وأن الوطنية الحقيقية لا تتشارك مع الاستبداد، فالاستبداد منبع الخيانة حتى ولو صدّع رؤوسنا بالوطنية والوطن ويحيا الوطن.
